مؤسسات المجتمع المدني والثقافة في ليبيا (إدريس المسماري)

حتي أواخر القرن التاسع عشر، وتحديدا مع ما يسمي في التحقيب التاريخي الليبي بالعهد العثماني الثاني (1835-1911م)، عاش الكيان الليبي عدة قرون من ظلام المعرفة الدامس لم يعرف فيها نور العلم والثقافة طريقه إلي عقول أبنائه، وباستثناء شذرات بسيطة لا تذكر من التعليم الديني المتركز في الأساس في الكتاتيب التابعة للمساجد والزوايا التي قامت بالجهود الشعبية في إطار التبرع أو الأوقاف بتحفيظ القرآن وتعليم القراءة والكتابة وبعض العلوم الفقهية البسيطة. ويصف الرحالة الحشايشي الذي مر علي مدينة طرابلس في منتصف القرن التاسع عشر واقع العلوم والمعرفة في البلاد آنذاك (أما العلوم والمعرفة العصرية فلا توجد عندهم، بل لا يشمون لها رائحة، كما لا يوجد عندهم علماء أعلام من فقهاء الإسلام) , ومع العهد العثماني الثاني شهدت البلاد محاولات إصلاحية في تطوير مرفقات البلاد ومؤسستها ومنها الاهتمام بالتعليم الحديث، فتم إنشاء عدد من المدارس التي تجمع ما بين العلوم الحديثة والعسكرية ومدرسة الفنون والصنائع.

وفي سنتي 1882-1883 عرفت البلاد أول جمعية ثقافية سياسية هي (القرائخانة)، أسسها إبراهيم سراج الدين في طرابلس وضمت في عضويتها عددا من شخصيات البلاد ونخبتها من أمثال المؤرخ (أحمد النائب) والشيخ (حمزة ظافر المدني) وغيرهما. ثم أمتد وجود هذه الجمعية إلي الأطراف حيث انضم إليها إبراهيم المهدوى عميد بلدية بنغازي، وبعض من الأعيان والشباب من مدينة مصراتة. ومن ضمن ما نصت عليه بنود هذه الجمعية التي اتخذت من أحد المقاهي في المدينة مقرا للقاء أعضائها “إصلاح التعليم والاهتمام بنشر التعليم العلمى، والتشجيع علي إقامة الجمعيات، والتثقيف ومتابعة الجرائد وقراءتها”، ولم تعمر هذه الجمعيات طويلا حيث ألقي القبض عل مؤسسيها وأعضائها بتهمة تهيج وتشويش الرأي العام. وأيضا الجمعية التي أنشأها المجاهد بشير السعداوي في أواخر تلك الفترة وضمت إلي جانب السعداوي عبد الرحمن الزقلعي ومفتي الخمس محمد أبورخيص “وأهتمت الجمعية   بموضوعات الإصلاح الإداري اللامركزي، والخلافة العربية، وسياسة الاتحاديين عموما، ولم يمنع هذه الجمعية من الاستمرار والتطور سوي الغزو الإيطالي وانصراف مؤسسيها إلي الانضمام إلي حركة الجهاد. كما يمكن اعتبار مدرسة “الفنون والصنائع” 1898م من ضمن المؤسسات الخيرية الأهلية التي قامت في العهد العثماني بدور النهضة الثقافية بجانب عملها وهدفها الرئيس في احتضان أيتام الفقراء وتعليمهم الصناعة وتزويدهم بالمعارف العامة.ويضاف إلي مؤسسات المجتمع المدني، الصحف الحرة المستقلة التي لا تتبع الإعلام الرسمي للدولة مثـل صحـيفة (أبو قشــة) والـتي أسـسها محـمد الهاشمي، وقامـت بـنـقد النــظام فــي ذلـك الوقــت 1909-1910 وفي فترة الاحتلال الإيطالي الذي شكل قطيعة تاريخية حادة أمام تراكم تجربة المجتمع المدني ظلت الكتاتيب والزوايا والمساجد والطرق الصوفية تقوم بدورها التقليدي في الاهتمام بتدريس تعليم الدين وتحفيظ القرآن وحفظ التراث. وحيث إنه لم تقم السلطات الإيطالية بأي عمل مجتمعي يمكن أن يصنف في خانة العمل المدني أو الأهلي الحديث الذي يتيح لليبيين المشاركة فيه، بل عملت علي تكريس إدارة عسكرية عنصرية لا تهتم إلا برعاياها الإيطاليين. وبالرغم من طبيعة الاستعمار الشرسة كان إنشاء (النادي الأدبي) في سنة 1920م أول مشروع ليبي اجتماعي ثقافي مدني. وقد أسسه في طرابلس الإخوان أحمد وعلي الفقيه حسن كجمعية انبثق عنها مكتبة ومدرسة ليلية تقوم بجلب الصحف والمجلات العربية الهادفة، ولكن سرعان ما أغلقت السلطات الاستعمارية هذا النادي ثم أعيد نشاطه الثقافي السياسي خلال فترة الإدارة البريطانية 1943، وليتحول بعد ذلك إلي حزب سياسي، هو(الحزب الوطني) الذي انشق بعد ذلك ليصبح حزب الكتلة الوطنية. فيما تزايدت ظاهرة إنشاء النوادي الرياضية الثقافية التي لعبت أدواراً اجتماعية وثقافية وتربوية، بل وتحول بعضها إلي تشكيلات سياسية كما حدث لجمعية عمر المختار التي تأسست في بنغازي سنة 1945م كجمعية ثقافية رياضية في بدايتها ثم تحولت إلي جمعية سياسية ثقافية وأنشئ لها فرع بمدينة درنة،وقد أُوقفت أنشطة هذه المؤسسات مع مطلع الخمسينيات.

الفترة من 1952م-1969م

حاولت الدولة تضييق حركة مؤسسات المجتمع المدني كما حصل في سنة 1962م عندما عدلت بعض حقوق وواجبات النقابات العمالية بسبب حضورها في الإضرابات والمقاطعة لسفن وطائرات الدول الاستعمارية. ولم يسمح سوي بظهور بعض أشكال النشاط المحكوم بتشريعات التبعية للدولة كإنشاء جمعية الهلال الأحمر الليبي في 20 يناير 1959م وتبعيتها لوزارة الصحة آنذاك، وكذلك إنشاء الجمعية الليبية للبر والمساعدات في سنة 1968 م وكذلك جمعية نور للمكفوفين.غير أن تنامي الوعي الثقافي والسياسي للقوى الوطنية ونمو حركة التطور الاجتماعي كانا سببا في ظهور بعض التشكيلات الحزبية السرية، وبعض الجمعيات التي تميزت باستقلال ملحوظ عن السلطة –كجمعية الفكر الليبية التي تأسست سنة 1959، ولعبت دورا مهما في تفعيل الحركة الثقافية والفكرية واستقطاب جزء من النخبة الليبية وفتح قنوات الحوار مع المثقفين الليبيين والعرب والأجانب.

وبشكل عام اتسم النشاط الثقافي خلال هذه الفترة بالطابع المدني، حيث نشطت النخبة المثقفة في تكوين المنتديات والجمعيات الثقافية والصحف المستقلة، وتركز نشاط المثقفين من خلال انضمامهم وإسهامهم في تأسيس النوادي “الثقافية/ الرياضية/ الاجتماعية” والمسارح التي تأسست جميعا بالمبادرات الذاتية من “مثقفين وفنانين” وبتمويل ذاتي من أعضائها، كما استمرت ظاهرة الصالونات الأدبية في بيوت بعض الشخصيات الثقافية المعروفة. ولعبت النوادي والصحافة والمقاهي دورا مهما في التواصل ما بين المثقفين للحوار والنقاش وتبادل الآراء والخبرات: ” كنادي الشباب الليبي/ ونادي الأهلي/ ونادي الهلال” والمقاهي مثل: “زرياب، ولارورا، والرياضي، والتجاري، والعرودي.. الخ.

ومن أهم ما يمكن رصده في هذه المرحلة هو تعدد المؤسسات الأهلية المهتمة بالشأن الثقافي والقائمة على المبادرة الطوعية وتنوع أهدافها ونشاطاتها، وعرفت هذه المرحلة نشأة بعض الجمعيات النسائية التي قامت بدور تأهيلي بارز في مجال التوعية الاجتماعية والثقافية، بجانب مهامها في تدريب المرأة على أعمال الحياكة والتدريب المنزلي والتعريف بحقوق المرأة ودورها الفعال في نهضة المجتمع. كما كان تأسيس الحركة الكشفية سنة 1954 محطة مهمة على صعيد بناء مؤسسات المجتمع المدني، حيث قامت بدور تربوي ثقافي متميز، وكانت مجلتها “جيل ورسالة” منبرا للكثير من الأقلام الثقافية وخاصة الشابة منها آنذاك.

وشهدت الساحة الجامعية نشاطا ثقافيا كبيرا تمثل في تنظيم المحاضرات والندوات والأمسيات الثقافية التي كانت تقيمها الجمعيات التابعة للكليات والأقسام الجامعية “جمعية احمد رفيق، وجمعية شكسبير، وجمعية ابن خلدون..)، وصدر عنها مطبوعات ثقافية كمجلة “قورينا” التي أصدرتها جماعة الفلسفة بالجامعة الليبية. هذا إلى جانب الصحف المستقلة التي كان لها دور مميز طوال تلك الفترة في نشر الثقافة الوطنية والانفتاح على الثقافة العربية والعالمية، وساهمت بذلك في التنوير وزيادة المعرفة وكانت الحاضنة الشرعية لولادة الكثير من المبدعين والمثقفين الذين أثروا الحياة الثقافية والسياسية.

الفترة من 1969 إلي 2010

في محاولة لتحديد خيارها الإيدلوجي وإعادة صياغة الواقع السياسي والاجتماعي وفق أطروحاتها ورؤاها الخاصة اختطارت سلطة النظام الجديد في ليبيا تجربة الاتحاد الاشتراكي العربي سنة 1970م. الذي يتوافق مع الشعارات التي رفعها البيان الأول لحركة الضباط الوحدويين الأحرار، وأنشئت داخله وحدة أطلق عليها الفكر والدعوة التي أسند اليها مهمة ترويج شعارات الاتحاد الاشتراكي (حرية اشتراكية وحدة)، والعمل على إقحام المثقفين بمختلف توجهاتهم في الانخراط في هذا الشكل السياسي. ومن تجربة الاتحاد الاشتراكي وحتى إعلان سلطة الشعب سنة 1977 وعلى وجه الخصوص في شأن المجتمع المدني، وعلى الرغم من تزايد عدد الجمعيات والنقابات والاتحادات فإنها ظلت عبارة عن امتداد للمؤسسات الرسمية، وتخضع للقوانين واللوائح والتعليمات في اختيار قياداتها، وفي بنيتها التنظيمية وأمورها المالية، وفي أنشطتها المختلفة وبالتالي فهي لم تمثل مجالاً مستقلاً ومنفصلاً، بل إنها كانت جزءاً من آليات النظام السياسي الذي يستند إلى التوجيهات الثورية والنظرية الجماهيرية.

وصدر خلال تلك الفترة عدد من القوانين المكبلة للعمل العام والنشاط النقابي والمهني المستقل(قانون تجريم الحزبية سنة1972م، وقانون الجمعيات رقم 111 لسنة 1970م، وتأميم الصحف الخاصة سنة 1973م)، وفي أبريل 1973م وجهت أعنف ضربة للمثقفين الليبيين عقب خطاب زوارة الذي أعلن فيه ما سمي بالثورة الثقافية حيث اعتقل أكثر من 300 مثقفاً بينهم عدد كبير من الأدباء والكتاب.أن أنماط التفاعل بين منظمات المجتمع المدني والدولة في ليبيا تقترب من نموذج “كوربورتارية الدولة”، حيث الأحزاب السياسية محظورة وتعتبر النقابات والاتحادات والروابط المهنية والجمعيات التطوعية الأهلية غير تنافسية وإلزامية وهيراركية، احتكرت هذه المؤسسات –شبه النقابية- العمل الثقافي والفني في مجالها من خلال أنشطتها وبرامجها، وتقلص وبشكل كبير دور الجمعيات والنوادي والمنتديات الثقافية بالإضافة إلى أن النقابات والاتحادات والراوبط يتم خلقها وتنظيمها وإعادة تنظيمها وحلها بقرارات ولوائح وقوانين رسمية، بل والتدخل حتى في وضع أهدافها وفي حرية الانضمام إليها، ويمكن الإشارة إلى التغيير الذي تم في شروط الانتساب إلى عضوية رابطة الكتاب والادباء على ضوء قرار مؤتمر الشعب العام رقم 59 لسنة 2004، وما حدث في نقابة الصحفيين حول ضم موظفي الإعلام وما جرى لانتخابات نقابة المحامين. ولذلك وخلال أكثر من عشرين عام لم يمنح الأذن لأي جمعية أو مؤسسة ثقافية بممارسة النشاط الثقافي إلا في حالات خاصة وضيقة جدا (جمعية المحيط الثقافي- صبراتة، وجمعية مزدة للتراث، والجمعية الأهلية لذاكرة المدينة- هون، وبيت درنة الثقافي). وأصبحت المرجعية الأساسية للعمل الثقافي والفني لدى اتحاد الأدباء والكتاب ونقابة الفنانيين حتى وإن تغيرت تسميتهم أو الجهة التابعين لها في الدولة فمن الناحية التشريعية (أمانة شؤون الروابط والنقابات)، ومن الناحية التنفيذية (أمانة الإعلام والثقافة..)، وقد نتج عن هذه الآلية ضعف كبير على مستوى المبادرة الذاتية للعمل الثقافي، الذي أصبح محكوما وتابعا للتوجيه من قبل أجهزة الدولة، والإيدلوجية منها على وجه التحديد، وهو الأمر الذي أدى إلى ضعف العمل النقابي وغياب أي نشاط بارز للجمعيات والمنتديات الثقافية المستقلة -وحتى المقاهي اصبحت لا تطيق لقاء أو تجمع للمثقفين بها، وهو الأمر الذي تسبب في انزواء عدد من المثقفين والأدباء والكتاب والفنانين وعزوفهم عن الانتماء لهذا الكيانات الهجينة (اتحاد الكتاب، ونقابة الفنانين). وحين قامت بعض الأصوات من الأعضاء الناشطين في رابطة الأدباء –الاتحاد سابقا- على وضع قواعد تطور من طبيعة أعمالها وتستقل بها نسبياً عن اشتراطات الدولة، قامت الأخيرة ومن خلال أعلى سلطة تشريعية “مؤتمر الشعب العام” بإصدار قرار بحل الرابطة وإعادة بنائها بما يضمن إعادة ولائها المطلق لمؤسسات الدولة.وما يمكن استخلاصه من هذه المرحلة بتعدد فصولها وآليات نشاطها وعملها في الحقل الثقافي هو تدجين العمل الثقافي من خلال ما سمي بمؤسسات نقابية (اتحاد الأدباء، ونقابة الفنانين) لخدمة مشروع الدولة الإيدلوجي، وتم تسييس المحتوى الثقافي بشكل عام، ولم يعد تعبيرا عن مطلب مجتمعي، بقدر ما أصبح يخدم أغراض المؤسسات السياسية الرسمية التي تسن القوانين وتقوم بالتمويل وتضع شروط العضوية. وبهذا فالمؤسسات المسماة بالنقابية لا تنطبق عليها أي من المعايير التي تعرفها مؤسسات المجتمع المدني.

 إدريس المسماري، مؤسسات المجتمع المدني والثقافة في ليبيا، مجلة عراجين، ص3.

http://www.libyaforum.org/index2.php?option=com_content&task=view&id=697&Itemid=1&pop=1&page=0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *